أم في الدنيا تذكر اليوم الذي تركت فيه طفلها لأول مرة في المدرسة، الموقف صعب والمشهد مأساوي جدا، الطفل يبكي وهو يترك أمه لانه وُضع في مكان يجهله وفي عالم أكبر منه، والام من جهتها تجهش بالبكاء لانها تشعر وكأنها مذنبة وتحس وكأن أحدهم يأخذ قطعة منها.
يترك دخول الطفل للمرة الاولى الى المدرسة شعورا اشبه بالانسلاخ ولا تمر الايام الاولى من التحاق الطفل بمدرسته من دون دموع غزيرة، سواء في عيون الاهل او عيون الاطفال.
للامومة معنى كبير، فلا يمكن وصفها بالكلمات لانها مرتبطة مباشرة بأحاسيس لا تعرفها إلا الام ، كما أن الامومة لا تعترف بالطبقية ولا بالفوارق الاجتماعية، فالملكة تحزن في اول يوم تدع فيه طفلها في المدرسة مثلما تشعر أي أم عادية، والدليل على ذلك كانت الصور التي نشرتها وكالات الانباء الاسبوع الماضي للاميرة ليونور ابنة الامير فيليبي ولي عهد اسبانيا وهي متوجهة الى المدرسة لليوم الاول وبدت أمها حزينة وقلقة، انحنت قربها وقبلت ولمست خديها وكأنها لن تراها من جديد.
اليوم الاول في المدرسة يصفه البعض بأنه "الفطام الثاني" الذي يفصل الام عن طفلها. وهو خطوة مهمة وأساسية في حياة الطفل وحياة أهله على حد سواء. فان معاناة الفراق التي يشعر بها الطفل والخوف أو الرهبة التي تنتابه من هذا العالم الجديد الذي سيدخله، ستظهر بلا شك في أساليب متعددة في الأيام الأولى لبدء العام الدراسي، بالبكاء ورفض المدرسة التي يعتقد الطفل بأنها المكان الذي سيبعده عن أمه وسيسلخه من بيئته وعائلته، وقد يدفعه هذا الاعتقاد الى البكاء والصراخ وربما يلجأ الى سلوك عدواني وعنيف. أمام هذا الواقع وتداركاً لهذه المشكلات، تشهد العائلات التي تحضر أحد أبنائها لدخول المدرسة للمرة الأولى استنفارا لتهيئة الطفل نفسيا ومعنويا لتقبل هذا العالم الجديد. ففي حين تولي ادارات المدارس أهمية كبرى لاستقبال هذه الفئة من الأطفال وتعمل على تبديد هواجسهم وبالتالي تخطي الحواجز التي قد تحول بين الطفل، كل بحسب وضعه الاجتماعي، وبين قبوله المدرسة. تعزو المتخصصة في علم النفس العلاجي الدكتورة غرازييلا كلاب سبب المشكلات التي يعانيها الطفل في عامه المدرسي الأول وخصوصا في الأيام الأولى الى أمور عدة وأهمها، الاحساس بـ"الهجر" الذي يشعر به الطفل عندما يبتعد عن أهله ويعتقد أن أمه تخلت عنه، اضافة الى خروجه من الاطار العائلي حيث الطمأنينة والأمان الى عالم جديد لا يعرف عنه شيئا، ما يشعره بـفقدان خصوصيته ومكانته التي تمنحه اياها عائلته، أي أنه يضيع في وسط مجموعة من الاطفال فيصبح بينهم كـ"أي رقم من الأرقام"، بعدما كان "ملكا" بين افراد اسرته. هناك عامل آخر قد يزيد من هذه المشكلة وهي استعداد الطفل البنيوي للخوف. لكن تميز كلاب أيضا بين الطفل الذي اعتاد المكوث في الحضانة وبين الذي لم يفارق والديه قبل ذلك، فالأول ينسجم بشكل أسهل من دون صعاب تذكر فيما يعاني الثاني من بعض المشكلات. وتصف مديرة قسم الروضة في مدرسة "أمجاد" في لبنان نجوى قصير اليوم الأول لدخول تلاميذ الروضة الأولى المدرسة بـ"أصعب الأيام"، وتقول "نعمل قبل فترة من بدء العام الدراسي بجهد مضاعف كي نستقبل هؤلاء التلاميذ في ظل أجواء مريحة لنخفف قدر الامكان من رهبة الانتقال الى عالم جديد قد يجعله يشعر بالغربة"، لذا تضيف قصير "يعتمد برنامج اليوم الأول على النشاطات التي تمتد طوال النهار وهي تتنوع بين الرسم ومشاهدة الفيديو، اضافة الى أنواع متعددة من الالعاب التي يحبها الأطفال في هذه السن".
تلعب مؤهلات المعلمات والاساليب التربوية المتبعة في المدرسة بحسب غرازييلا كلاب لاستقبال هؤلاء الأطفال دورا مهما في إراحة الطفل نفسيا، اذ من الضروري أن يتم احتضانهم من قبل المعلمات بمحبة ومودة. ومن الأفضل أن تقوم الأم بمرافقة طفلها في اليوم الأول كي يعتاد على الفكرة ويكتسب سلوكا جديدا، وبالتالي يتأكد من أن أمه لن تتخلى عنه بل إنها ستعود لتأخذه في آخر الدوام، وبذلك يتأقلم يوما بعد يوم مع الأجواء المدرسية والبرنامج اليومي الذي سيقوم به.
وعن طريقة تعامل المعلمات مع الأطفال في بداية السنة الدراسية تقول قصير" نجند أكثر من 36 معلمة لاستقبال ما بين 70 و90 تلميذا، اذ تتولى كل واحدة منهن الاه بمجموعة معينة، كما أننا نحرص على أن يكون موعد دخول هؤلاء قبل بدء الصفوف الأخرى أي كي يكونوا وحدهم في الملعب ولا يتأثروا بغيرهم من التلاميذ وبالتالي كي نستطيع الاه بهم أكثر، ومن الأفضل أن يكون يوم الخميس وذلك كي يعتادوا تدريجيا على الجو الجديد، فيحضرون يومين الى المدرسة ثم يذهبون في عطلة نهاية الأسبوع، مع العلم أن دوام الأسبوع الأول للمدرسة يكون قصيرا مقارنة بالأيام الأخرى، أي أقل من ساعتين تقريبا. كل هذه الأمور مجتمعة تساعدنا في تجاوز المشكلة يوما بعد يوم".
تشدد قصير على التواصل الدائم مع الأهل وخصوصا في الايام الأولى للمدرسة. تقول: "في اليوم الأول نطلب من أولياء الأمر مرافقة أبنائهم والبقاء معهم حوالي ساعتين أو أكثر في الملعب حيث يلعبون ويتعرفون على معلماتهم، وبعد ذلك نطلب منهم الانصراف، عندها ترافق كل معلمة تلاميذها وتأخذهم الى الصف كي يتعرفوا على هذا المكان الجديد الذي سيمضون فيه معظم أوقاتهم خلال السنة الدراسية، وبعد ذلك نمضي ساعات هذا اليوم في تلقي اتصالات الأهل للاطمئنان على أولادهم، وهنا علينا أن نكون صادقين معهم، فاذا كان وضع الطفل متأزما، عندها نطلب منهم المجيء لأخذ أبنائهم". وتشير قصير الى "أن رفض الانفصال بين الأهل والأبناء لا يأتي من الأطفال فحسب، بل إن كل من الطرفين قد يجهش بالبكاء ويرفض ترك الآخر، عندها اما أن نسمح للأهل بالبقاء لفترة أطول أو قد نطلب منهم أخذ الطفل معهم الى المنزل، كي لا نجبره على فعل شيء لا يرغب به في المرحلة الأولى وبالتالي كي لا يكره المدرسة في أول الطريق". ورغم كل هذه الاجراءات تؤكد قصير أن المعاناة لا تزال موجودة مع هذه الفئة من الأطفال، وخصوصا مع من اعتاد البقاء بشكل دائم مع والديه، لكن نسبتها تتدنى كثيرا وقد لا نواجهها بتاتا، مع هؤلاء الذين قضوا فترة في الحضانة قبل دخولهم المدرسة، فالتعامل معهم يكون أسهل.
أمام هذا الواقع ترى قصير أن امكانية مواجهة بعض المشكلات مع الأطفال، تظهر في المقابلة الشخصية الأولى قبل تسجيل الطفل، "فقد نلاحظ ضعف شخصية الطفل أو دلعاً زائداً أو أنه لا يتكل على نفسه كذلك تعلق الطفل الشديد بأهله...، عندها نطلب من الأم والأب ان يقوما بخطوات تمهيدية قبل اليوم الأول للمدرسة مثلا، الابتعاد قليلا عن الطفل ووضعه في أجواء المدرسة والعالم الجديد الذي سيصبح فردا منه والاتكال على نفسه وغيرها من الأمور التي تساعد الطفل على الانسجام مع هذه المرحلة المهمة والأساسية في حياته، ومن جهتنا نولي هؤلاء الأطفال عناية دقيقة واها خاصا". وتتراوح الحالات التي يواجهها الكادر التعليمي مع هؤلاء الأطفال بحسب قصير بين البكاء والعنف والضرب في بعض الأحيان، اذ قد يقوم أحدهم بضرب أصدقائه والمعلمة، وهي "فورة" لا تتعدى مدتها خمس دقائق، عندها نترك الطفل كي يهدأ بمفرده وبعد ذلك نحاول التقرب منه "لذا فان أصعب الحالات لا تتطلب أكثر من 15 يوما لتجاوزها، لكن بعد ذلك نمنع الأهل من الحضور الى المدرسة الا بعد مرور شهرين، ليكون بذلك التلميذ قد تأقلم مع الجو وأصبح محصنا بشكل أفضل".
ولتدارك قدر الامكان المشكلات التي قد يواجهها الأهل في هذه المرحلة الحساسة من حياة الطفل، تنصح كلاب بضرورة التمهيد للطفل عن عالم المدرسة اما بالكلام أو بالصور ومن الافضل مرافقته لزيارة هذا المكان والتعرف عليه قبل بدء العام الدراسي.
وفي حين تميز كلاب بين الأطفال الذين سبق لهم أن اعتادوا على أجواء الحضانة وبين أولئك الذين لم يفارقوا أهلهم طوال السنوات الثلاث، تؤكد أن مجرد انتقال الطفل الى عالم جديد، سيجعله يشعر بإحساس الغربة، خصوصا أنه أيضا في الحضانة تكون العناية شبيهة بتلك التي يتلقاها في المنزل، في حين أن الوضع في المدرسة يختلف لناحية أن الاه يكون للمجموعة وليس للفرد.
المعروف انه في اوروبا تقوم المدارس بدعوة الاهل والاطفال قبل بدء العام الدراسي لرؤية المدرسة بجميع أركانها بما فيها الغرفة والمقعد الذي سيشغره الطفل منذ يومه الاول، وتمهد هذه الخطوة عملية تعريف الطفل بالعالم الجديد الذي ينتظره، ويتم التركيز على الزوايا الخاصة باللعب في الغرفة لتشجيعه على المجيء الى المدرسة، وخلال الزيارة الاولى يختلط الاطفال مع أصدقائهم الجدد. فهذه الخطوة تمهد على الاطفال الطريق لبدء مشوارهم الدراسي الطويل.
[justify]